الاثنين، 18 فبراير 2013

الفتوحات السلفية - ج1

يعد كتاب"الفتوحات المكية" للمتصوف الشهير محي الدين بن عربي المعروف بالشيخ الاكبر من اهم كتب التجريد الصوفي والفهم الباطني للنصوص الشرعية...كتب الشيخ  كتابه هذا خلال رحلته للحج في مكة و اثار فيه جدلاً كبيراً في اوساط الفقهاء الذين كفروا محي الدين و وهاجموا كتبه المختلفة واتباعه.
من عنوان الكتاب ومحتواه يتضح ان ابن عربي يستخدم مصطلح "الفتح" كتعبير عن الفهم والكشف المعرفي والارتقاء في وجدانية التدين وحالة الهيام التي رافقته خلال سعيه نحو الحج.

وبعد قرون متطاولة من محي الدين ومريديه ومكفريه يتعرض العالم الاسلامي اليوم الى تهديد خطير هو الاشد وطأة بنظري منذ الاجتياح المغولي,فتح من نوع اخر ليس فتحاً عرفانياً يقوم على انفتاح العقل والقلب لحب الخالق والمخلوق والفناء التام في الحق...فتح يقوم على الجهل والعنف والقسوة والجفاف المعرفي والروحي والانساني وهذا التناظر بين مفهومي"الفتوحات" ما الهمني اختيار هذا العنوان لسلسلة المقالات القادمة.


ولنعد الى الوراء بعض الشيء,فأن الخلافات التي نشبت بعد وفاة الرسول الاكرم (ص) كانت في غالبها الاعم سياسية وبعضها فقهي ولم تصل الى خلاف فكري او عقدي شديد رغم احتدامها...وقد بدأت بواكير نشأة المدارس الفكرية مع علي ابن ابي طالب عليه السلام الذي اسس في خطبه وكلماته لمنهج عرفاني/عقلاني متميز ومن ثم انشقاق حركة الخوارج وظهور منهج التكفير والقتل بأسم الدين لأول مرة في العالم الاسلامي بينما اسس معاوية بن ابي سفيان بدهائه الخارق للمنهج الجبري لكي يشيع بين الناس وجوب طاعة الحاكم عادلاً او ظالماً لأنه مسلط عليهم بقضاء الله وقدره لتتبرعم هذه المدارس الى الاف الافكار التي تزاوجت مع التراث الفارسي واليوناني لتنتج حديقة غناء من زهور الفكر الرائعة التي شهدت ربيعها في العصر العباسي بين عهدي الرشيد والمأمون.

لكن كثرة الافكار وتصادمها العنيف في فترة ما يعرف بمحنة خلق القرآن ادى الى انبثاق تيار جديد رفض كل هذه الافكار ورفع شعار الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.
وهاجم هذا التيار جميع المدارس الاسلامية تحت عنوان"البدعة" قائلاً ان نصوص الكتاب والسنة يجب ان تؤخذ فقط على رأي السلف وان اي اعمال لمناهج بشرية اخرى هم ابتداع وتأويل.
واستطاع هذا التيار ان يحوز على دعم الخليفة المتوكل بشن حملة عشواء على مخالفيه لينتهي الامر بالقضاء التام على المعتزلة ارباب المنطق والفلسفة وتحييد البقية الى درجة كبيرة.
وكان اهم رموز هذا التيار هو ابن تيمية المعروف بشيخ الاسلام والذي الف كثيراً من الكتب رد فيها على الفرق المختلفة بلهجة عنيفة وشديدة ورد عليه الكثير من علماء اهل السنة في زمانه لينتهي الى الحبس بفتوى من بعض علماء الدين, ويعد ابن تيمية-وتلميذه ابن قيم الجوزية- المؤسس الرئيس للتيار السلفي.

وقد نهجت السلفية منذ ابن تيمية منهجاً يدعو الى عدم الدخول في السياسة من باب وجوب طاعة ولاة الامر لذلك ظلت بعيدة عن الاضواء حتى نهايات العهد العثماني,فالسلفية ظلت حتى ذلك الحين سلمية نسبياً الا عندما يكون الحاكم مؤيداً لهم كما في حالة المتوكل,اما وهم خارج السلطة فقد تجنبوا اي صدام مع الدولة والمجتمع ولا يزال جزء كبير منهم على هذا النهج وهم المعروفون بالسلفية المدرسية.

التحول التاريخي في مسار الحركة السلفية ظهر في نهاية الحقية العثمانية مع بروز الشيخ محمد بن عبد الوهاب في صحراء الجزيرة,فقد تحرر الرجل من حرمة الخروج على الحاكم بالقول ان الخروج محرم اذا كان الحاكم مسلماً...وقام بتكفير الدولة العثمانية والخروج المسلح عليها بالتحالف مع محمد بن سعود امير ال سعود وبدعم من الحكومة البريطانية ليشن اتباع الرجلين هجوماً واسع النطاق على قوات السلطنة المتهالكة ويخرجوها من الجزيرة العربية وهاجموا كذلك مراقد الصحابة واهل البيت ومشاهد الشيعة والصوفية وانهوا كثيراً من الممارسات التي اعتبروها مخالفة للنصوص في اداء الحج وكانت افكارهم تتجلى في ان اي فكر مختلف هو"بدعة" وان اي مزار او مرقد او ذكر لرمز هو "شرك" يستحق اهله القتال.
والحق يقال فأن كثيراً من الخرافات التي سادت المجتمع الاسلامي كان للسلفية الوهابية الفضل في القضاء عليها.

لم يكن الفكر الوهابي مستساغاً في العالم الاسلامي...وكان الرد الاول على محمد بن عبد الوهاب هو من والده واخيه برسائل موثقة,ثم جاءته الردود متوالية من تونس ومصر وغيرها مما حجم حركته ومنعها من الخروج من اطار الجزيرة العربية رغم بعض المحاولات التي قاموا بها للهجوم على جنوبي العراق اذ هاجموا كربلاء والنجف وهدموا صحن الامام الحسين ولكنهم لم يخترقوا العراق فكرياً وظلوا اسيري صحراء الجزيرة.

ومع تأسيس الدولة السعودية عادت السلفية الى شكلها الموالي للسلطة والبعيد عن المشاكل حتى جاءت الحرب الافغانية حيث شاركت الدولة السعودية و بدعم امريكي وغربي بتجنيد وتسليح وتدريب الاف الشباب وارسالهم لقتال الجيش السوفييتي في افغانستان ليخرج من هناك فرع ثالث للسلفية هو السلفية الجهادية وابرز تنظيماتها "القاعدة" الذي قال بتكفير الحكومات والشعوب الاسلامية لعدم حكمها بالشرع ومحالفتها لدول الكفر لتبداً مرحلة سوداء في تاريخ العالم العربي الذي شهد مجازر كبرى في مصر والجزائر  وغيرها امتدت الى الغرب بتفجيرات نيويورك ومدريد وسواها ليعلن العالم حرباً على"الارهاب" استباحت فيها الجيوش الغربية كثيراً من الدول مفتتحة مرحلة دموية فوضوية في تاريخ العالم.
اما بعد الربيع العربي ولأسباب سنناقشها في حلقات قادمة فقد فوجيء المراقب غير المطلع بأنتشار غريب للتيار السلفي في الدول التي لم يتمكن من دخولها من خلال افكار ابن تيمية وابن عبد الوهاب...انتشار عبر عن نفسه بصيغة متشددة وجريئة وكأن هذا المارد النائم قد استيقظ فجأة ليخبرنا انه امتد في معظم دولنا بصمت وقد حانت لحظة الحقيقة,لحظة اعلان هذا التيار رغبته في اقامة "خلافة" على منهاجه رغم انف الجميع ويبدو ان له من الدعم والامكانات ما لا يجعل ذلك بعيداً..

البقية تأتي تباعاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق